الولاية على المؤمنين بعد وفاة النبي (ص)

قال الله تعالى: (النَّبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم) [الأحزاب : ٦]

قال العالم السَّلفي ابن قيِّم الجوزية في (الرسالة التبوكية): 
"وقال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِن أَنفُسِهِمْ) . وهذا دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين، وهذه الأولوية تتضمن أموراً:
منها: أن يكون أحبَّ إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره، ومع هذا يجب أن يكونَ الرسول أولى به منها، وأحبَّ إليه منها؛ فبذلك يحصل له اسم الإيمان.
ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمالُ الانقياد والطاعة والرضى والتسليم وسائر لوازم المحبة، من الرضى بحكمه، والتسليم لأمره، وإيثاره على كل من سواه.
ومنها: أن لا يكون للعبد حُكْمٌ على نفسه أصلاً، بل الحكمُ على نفسه للرسول، يحكمُ عليها أعظمَ من حُكْمِ السيد على عبده، والوالد على ولده؛ فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها.
فيا عجباً كيف تَحصُلُ هذه الأولوية لعبد قد عَزَلَ ما جاء به الرسول عن منصب التحكيم، ورَضِيَ بحكم غيره، واطمأن إليه أعظمَ من طمأنينته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وزعم أن الهدى لا يُتَلَقَّى من مشكاته، وإنما يتلقى من دلالات العقول، وأنَّ ما جاء به لا يفيد اليقين، إلى غير ذلك من الأقوال التي تتضمن الإعراضَ عنه وعما جاء به، والحوالةَ في العلم النافع على غيره، وذلك هو الضلال المبين.
ولا سبيلَ إلى ثبوت هذه الأولوية إلاّ بعَزْلِ كل ما سواه، وتوليتِه في كل شيء، وعَرْضِ ما قاله كل أحد سواه على ما جاء به؛ فإن شهد له بالصحة قَبِلَه، وإن شهد له بالبطلان ردَّه، وإن لم تتبينْ شهادتُه له بصحةٍ ولا بطلانٍ جَعَلَه بمنزلة أحاديث أهل الكتاب، وَوَقَفَه حتى يَتَبَيَّن أي الأمرين أولى به؟
فمن سلكَ هذه الطريقةَ استقامَ له سَفَرُ الهجرة، واستقام له علمُه وعملُه، وأقبلتْ وجوهُ الحقِّ إليه من كلِّ جهة.
ومن العجب أن يَدّعي حصولَ هذه الأولوية والمحبة التامة مَن كان سعيه واجتهاده ونَصَبه في الاشتغال بأقوال غيره وتقريرها، والغضب والحمية لها، والرضى بها والتحاكم إليها، وعرض ما قال الرسول عليها؛ فإن وافقها قَبِلَه، وإن خالفها التمسَ وجوهَ الحيل، وبالغَ في رَدِّه لَيًّا وإعراضاً؛كما قال تعالى: (وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)"(١).

أقول : نستفيد مما قاله ابن القيم عدة مقامات للنبيِّ صلى الله عليه وآله من حيث كونه (أولى بالمؤمنين من أنفسهم) :

١- أن من لم يكن النبيُّ أولى به من نفسه فليس من المؤمنين.

٢- أن يكون الأولى بالمؤمنين من أنفسهم أحبَّ إلى العبد من نفسه.

٣- يلزم من هذه الأولوية (أولى بالمؤمنين من أنفسهم) كمال الانقياد والطاعة والرضى والتسليم وسائر لوازم المحبة، من الرضى بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على كل من سواه.

٤- أنَّ الأولى بالمؤمنين من أنفسهم حكمه على المؤمنين أعظم من حُكْم السيد على عبده، والوالد على ولده، وأنَّ المؤمنين ليس لهم حُكْمٌ على أنفسهم إلا بما حَكَمَ به من هو أولى بهم من أنفسهم.

٥- وجوب عَزْلِ كل من سوى الأولى بالمؤمنين من أنفسهم، وتوليةِ الأولى في كل شيء، وعَرْض ما جاءَ به كلُّ أحدٍ على ما قاله الأولى بالمؤمنين من أنفسهم، فما شهد له بالصحة قُبِلَ، وما شهد له بالبطلانِ رُدَّ.

🛑 ولنا أن نسأل : هل أعطى الله تعالى هذه الولاية وهذا المقام (أولى بالمؤمنين من أنفسهم) لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وهل بيَّن رسولُ الله صلى الله عليه وآله هذا الأمر؟

📜 لنقرأ هذه الرواية :

١- أخرج أحمد في مسنده : 
حدثنا حُسين بن محمد وأبو نعيم، المعنى، قالا: حدثنا فِطْرٌ، عن أبي الطُّفيل قال:
جمع عليٌّ رضي الله عنه الناسَ في الرَّحْبة، ثم قال لهم: أنْشُدُ اللهَ كلَّ امرىءٍ مسلمٍ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم غَديرِ خُمٍّ ما سمع، لَمَّا قام، فقام ثلاثون من الناس، وقال أبو نعيم: فقام ناسٌ كثير، فشهدوا حين أخذه بيده، فقال للناس: "أتَعْلَمُونَ أنِّي أوْلَى بالمؤمنينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ؟" قالوا: نعم يا رسولَ الله. قال: "مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ، فَهذَا مولاهُ، اللّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَعَادِ مَنْ عادَاهُ" قال: فخرجتُ وكأنَّ في نفسي شيئاً، فلَقِيتُ زيدَ بنَ أرقم، فقلتُ له: إني سمعتُ علياً رضي الله عنه يقول كذا وكذا. قال: فما تُنكر؟ قد سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك له.
قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح(٢).

٢- وأخرجه أحمد في (فضائل الصحابة).
قال المحقق وصي الله بن محمد عباس : إسناده صحيح (٣).

٣- أخرج ابن حبان في صحيحه : 
أخبرنا عبدُ الله بنُ محمد الأزديُّ، حدثنا إسحاقُ بنُ إبراهيم، أخبرنا أبو نعيم، ويحيى بنُ آدم، قالا: حدثنا فِطْرُ بنُ خليفة، عن أبي الطُّفَيل قال: 
قال عليٌّ: أَنشُدُ الله كُلَّ امرىءٍ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ في غَدِيرِ خُمٍّ لَمَا قامَ، فقامَ أُناسٌ فشَهِدوا أَنَّهمْ سَمِعوه يقولُ: "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنِّي أَوْلَى النَّاسِ بالمُؤمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهمْ؟" قالوا: بَلى يا رَسُولَ الله.
قالَ: فقال: "مَنْ كُنتُ مَوْلاهُ فإنَّ هذا مَولاَهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ"، فخرجتُ وفي نفسي من ذلك شيءٌ ، فلقيتُ زيدَ بنَ أرقم ، فذكرتُ ذلك له، فقالَ: قَدْ سمِعناهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ ذلكَ لهُ.
قال أبو نُعيم: فقلتُ لِفِطر: كم بينَ هذا القول وبينَ موتِهِ؟ قال: مئة يوم (٤).

٤- قال الألباني في (سلسلة الأحاديث الصحيحة ج٤ ص٣٣١) وقال : وإسناده صحيح على شرط البخاري"(٥).

٥- قال المحقق عامر حسن صبري في حاشية كتاب (مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) للحافظ ابن عساكر : إسناده صحيح(٦).

٦- قال المحقق بشار عواد معروف في حاشية (تاريخ الإسلام) للحافظ الذهبي : وإسناده صحيح(٧).

وأورده بشار عواد معروف في كتابه (مسند أصحاب الكساء) وقال : إسناده صحيح، رجاله ثقات(٨).

٧- قال المحقق رياض عبد الحميد مراد في حاشية (البداية والنهاية) للحافظ ابن كثير : وإسناده صحيح(٩).

٨- قال المحقق حسين سليم أسد في حاشية (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) للحافظ الهيثمي : وإسناده صحيح(١٠).

💎 الخلاصة : أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.

______________________________
(١) الرسالة التبوكية ص٣١-٣٣ ، ط. دار عالم الفوائد - مكة المكرمة.
(٢) مسند أحمد ج٣٢ ص٥٥-٥٦، رقم الحديث ١٩٣٠٢.
(٣) فضائل الصحابة ج٢ ص٨٤٩، رقم الحديث ١١٦٧.
(٤) المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع (صحيح ابن حبان) ج٤ ص١٩٤-١٩٥، رقم الحديث ٣٢٦٧ ، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - دولة قطر.
(٥) سلسلة الأحاديث الصحيحة ج٤ ص٣٣١.
(٦) مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لابن عساكر (مُستل من تاريخ دمشق) ج١ ص٤٤٩-٤٥٠، رقم الحديث ٤٧٣ ، ط. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - مملكة البحرين.
(٧) تاريخ الإسلام ج٢ ص٣٥٧-٣٥٨ ط. دار الغرب الإسلامي.
(٨) مسند أصحاب الكساء ج٢ ص٢٣٨، رقم الحديث ٤٢٣ ، ط. دار الغرب الإسلامي - تونس.
(٩) البداية والنهاية ج٥ ص٢٩٣ ، ط. دار ابن كثير - دمشق.
(١٠) مجمع الزوائد ج١٨ ص٢١٠-٢١١، رقم الحديث ١٤٦١٤ ، ط. دار المنهاج - جدة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالة الأولى للحيدري بعدما أثاره حول المراجع

تصريح للقرطبي عن الأربعين لدى الإمامية

الرسالة الثانية للحيدري.. وهي بعد حلقة (مشروع المرجعية الدينية)